فصل: تفسير الآيات رقم (41- 42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏34‏)‏ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك، واللام في ‏{‏ليأكلون‏}‏ لام التأكيد، وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضاً باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أي النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه، وقيل كانوا يأخذون منهم من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع، وقيل كانوا يرتشون في الأحكام، ونحو ذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله تعالى ‏{‏بالباطل‏}‏، يعم هذا كله، وقوله ‏{‏يصدون‏}‏، الأشبه هنا أن يكون معدى أي يصدون غيرهم وهذا الترجيح إنما هو لنباهة منازلهم في قومهم و«صد» يستعمل واقفاً ومتجاوزاً، ومنه قول الشاعر ‏[‏عمرو بن كلثوم‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

صددت الكأس عنا أم عمرو *** وكان الكأس مجراها اليمينا

و ‏{‏سبيل الله‏}‏ الإسلام وشريعة محمد عليه السلام، ويحتمل أن يريد ويصدون عن سبيل الله في أكلهم الأموال بالباطل، والأول أرجح، وقوله ‏{‏والذين‏}‏ ابتداء وخبره ‏{‏فبشرهم‏}‏، ويجوز أن يكون ‏{‏والذين‏}‏ معطوفاً عل الضمير في قوله ‏{‏يأكلون‏}‏ على نظر في ذلك، لأن الضمير لم يؤكد، وأسند أبو حاتم إلى علباء بن أحمد أنه قال‏:‏ لما أمر عثمان بكتب المصحف أراد أن ينقص الواو في قوله ‏{‏والذين يكنزون‏}‏ فأبى ذلك أبي بن كعب وقال لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى إرادة عثمان يجري قول معاوية، إن الآية في أهل الكتاب وخالفه أبو ذر فقال‏:‏ بل هي فينا، فشكاه إلى عثمان فاستدعاه من الشام ثم خرج إلى الربذة، والذي يظهر من الألفاظ أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين المال بالباطل ذكر بعد ذلك بقول عامر نقص الكافرين المانعين حق المال، وقرأ طلحة بن مصرف «الذين يكنزون» بغير واو، و‏{‏يكنزون‏}‏ معناه يجمعون ويحفظون في الأوعية، ومنه قول المنخل الهذلي‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

لا در دري إن أطعمت نازلهم *** قرْف الحتيِّ وعندي البر مكنوز

أي محفوظ في أوعيته، وليس من شروط الكنز الدفن لكن كثر في حفظه المال أن يدفنوه حتى تورق في المدفون اسم الكنز، ومن اللفظة قولهم رجل مكتنز الخلق أي مجتمع، ومنه قول الراجز‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

على شديد لحمه كناز *** بات ينزيني على أوفاز

والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه، ولذلك قال كثير من العلماء‏:‏ الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض، وأما المدفون إذا خرجت زكاته فليس بكنز كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«كل ما أديت زكاته فليس بكنز» وهذه الألفاظ مشهورة عن ابن عمر وروي هذا القول عن عكرمة والشعبي والسدي ومالك وجمهور أهل العلم، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته، وقال أبو ذر وجماعة معه‏:‏ ما فضل من مال الرجل عن حاجة نفسه فهو كنز، وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط، ولكن قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ هي منسوخة بقوله ‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ فأتى فرض الزكاة على هذا كله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كان مضمن الآية لا تجمعوا مالاً فتعذبوا فنسخه التقرير الذي في قوله ‏{‏خذ من أموالهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ والضمير في قوله ‏{‏ينفقونها‏}‏ يجوز أن يعود على الأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى، ويجوز أن يعود على الذهب والفضة هما أنواع، وقيل عاد على الفضة واكتفي بضمير الواحد عن الضمير الآخر إذا فهمه المعنى وهذا نحو قول الشاعر ‏[‏قيس بن الخطيم‏]‏‏:‏ ‏[‏المنسرح‏]‏

نحن بما عندنا وأنت بما عن دك راضٍ والرأي مختلفُ *** ونحن قول حسان‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

إنّ شرَخ الشباب والشّعَر الأس *** ود ما لم يعاص كان جنونا

وسيبويه يكره هذا في الكلام، وقد شبه كثير من المفسرين هذه الآية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏ وهي لا تشبهها، لأن «أو» قد فصلت التجارة عن اللهو وحسنت عود الضمير على أحدهما دون الآخر، والذهب تؤنث وتذكر والتأنيث أشهر، وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قد ذم الله كسب الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه، فقال عمر‏:‏ أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسأله، فقال «لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المؤمن على دينه» وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت الآية «تباً للذهب تباً للفضة»، فحينئذ أشفق أصحابه وقالوا ما تقدم، والفاء في قوله ‏{‏فبشرهم‏}‏، جواب كما في قوله ‏{‏والذين‏}‏ من معنى الشرط، وجاءت البشارة مع العذاب لما وقع التصريح بالعذاب وذلك أن البشارة تقيد بالخير والشر فإذا أطلقت لم تحمل إلا على الخير فقط، وقيل بل هي أبداً للخير فمتى قيدت بشر فإنما المعنى أقم لهم مقام البشارة عذاباً أليماً، وهذا نحو قول الشاعر ‏[‏عمرو بن معديكرب‏]‏‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وخيل قد دلفت لها بخيلٍ *** تحيةَ بيْنِهمْ ضرْبٌ وجيعُ

وقوله تعالى ‏{‏يوم يحمى عليها‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏ ظرف والعامل فيه ‏{‏أليم‏}‏ وقرأ جمهور الناس «يحمى» بالياء بمعنى يحمى الوقود، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تحمى» بالتاء من فوق بمعنى تحمى النار والضمير في عليها عائد على الكنوز أو الأموال حسبما تقدم، وقرأ قوم «جباهم» بالإدغام وأشموها الضم حكاه أبو حاتم، وردت أحاديث كثيرة في معنى هذه الآية من الوعيد لكنها مفسرة في منع الزكاة فقط لا في كسب المال الحلال وحفظه، ويؤيد ذلك حال أصحابه وأموالهم رضي الله عنهم، فمن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ترك بعده كنزاً لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع» الحديث‏.‏ وأسند الطبري قال كان نعل سيف أبي هريرة من فضة فنهاه أبو ذر، وقال‏:‏ قال رسول الله صلة الله عليه وسلم‏:‏ «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها»، وأسند إلى أبي أمامة الباهلي قال‏:‏ مات رجل من أهل الصفة فوجد في برده دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كية ثم مات آخر فوجد له ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيتان»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا إما لأنهما كانا يعيشان من الصدقات وعندهما التبر وإما لأن هذا كان في صدر الإسلام، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه، ولو كان ضبط المال ممنوعاً لكان حقه أن يخرج كله لا زكاته فقط، وليس في الأمة من يلزم هذا، وقوله ‏{‏هذا ما كنزتم‏}‏ إشارة إلى المال الذي كوي به، ويحتمل أن تكون إلى الفعل النازل بهم، أي هذا جزاء ما كنزتم، وقال ابن مسعود‏:‏ والله لا يمس دينار ديناراً بل يمد الجلد حتى يكوى بكل دينار وبكل درهم، وقال الأحنف بن قيس‏:‏ دخلت مسجد المدينة وإذا رجل خشن الهيئة رثها يطوف في الحلق وهو يقول‏:‏ بشر أصحاب الكنوز بكي في جباهم وجنوبهم وظهورهم، ثم انطلق يتذمر وهو يقول وما عسى تصنع في قريش‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

هذه الآية والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب شرعته في جاهليتها من تحريم شهور الحِل وتحليل شهور الحرمة، وإذا نص ما كانت العرب تفعله تبين معنى الآيات فالذي تظاهرت به الروايات وينفك عن مجموع ما ذكر الناس، أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها فكانوا إذا توالت عليهم حركة ذي القعدة وذي الحجة والمحرم صعب عليهم وأملقوا، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم عيه السلام، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد بن حذيفة، ثم خلف ابنه قلع بن عباد، ثم خلفه ابنة أمية بن قلع، ثم خلفه ابنه عوف بن أمية، ثم خلفه ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام، وذكر الطبري وغيره أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة، وكانت صورة فعلهم أن العرب كانت إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين، فقالوا أنسئنا شهراً أي آخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة، قال مجاهد‏:‏ ويسمون ذلك الصفر المحرم، ثم يسمون، ربيعاً، ربيعاً الأول صفراً وربيعاً الآخر ربيعاً الأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون سنتهم من المحرم الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حال لهم، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا، ففي هذا قال الله عز وجل ‏{‏إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً‏}‏ أي ليست ثلاثة عشر شهراً، قال الطبري حدثني ابن وكيع عن عمران بن عيينة عن حصين عن أبي مالك قال‏:‏ كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهراً، قال مجاهد‏:‏ ثم كانوا يحجون في كل شهر عامين ولاء، وبعد ذلك يندلون، فيحجون عامين ولاء، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة، وهم يسمونه ذا الحجة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة، فذلك قوله إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خطب في حجة الوداع فساق الحديث فقال فيه‏:‏

«أولهن رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويجيء في أكثر الكتب أنهم كانوا يجعلون حرمة المحرم في صفر ويسكت عن تمام القصة، والذي ذكرناه هو بيانها، وأما كون المحرم أول السنة العربية وكان حقه إذ التاريخ من الهجرة أن يكون أول السنة في ربيع الأول فإن ذلك فيما يرون لأن عمر بن الخطاب دون ديوان المسلمين وجعل تاريخه المحرم إذ قبله انقضاء الموسم والحج فكان الحج خاتمة للسنة، واعتد بعام الهجرة وإن كان قد نقص من أوله شيء، ولما كانت سنة العرب هلالية بدئ العام من أول شهر ولم يكن في الثاني عشر من ربيع الذي هو يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ولا كان عند تمام الحج لأنه في كسر شهر، وأما الأربعة الحرم فهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» قصد التفريق بينه وبين ما كانت تفعله قبائل ربيعة بأسرها، فإنها كانت تجعل رجبها رمضان وتحرمه ابتداعاً منها، وكانت قريش ومن تابعها في ذلك من قبائل مضر على الحق، فقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ونسبه إلى مضر إذ كان حكمه وتحريمه إنما كان من قبل قريش، وفي المفضليات لبعض شعراء الجاهلي ‏[‏عوف بن الأحوص العامري‏]‏‏:‏ الوافر‏]‏

وشهر بني أمية والهدايا *** البيت؛ قال الأصمعي‏:‏ يريد رجباً، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «اثنا عْشر شهراً» بسكون العين وذلك تخفيف لتوالي الحركات، وكذلك قرأ أحد عشر وتسعة عشر وقوله ‏{‏في كتاب الله‏}‏ أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ أو غيره، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه وليست بمعنى قضائه وتقديره لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض، «والكتاب» الذي هو المصدر هو العامل في ‏{‏يوم‏}‏ وفي قوله ‏{‏في كتاب الله‏}‏ متعلقة بمستقرة أو ثابتة ونحوه، ويقلق أن يكون الكتاب القرآن في هذا الموضع، وتأمل، ولا يتعلق في بعده للتفرقة بين الصلة والموصول بخبر «أن» وقوله ‏{‏منها أربعة حرم‏}‏ نص على تفضيل هذه الأربعة وتشريفها، قال قتادة‏:‏ اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلاً ومن الشهور المحرم ورمضان، ومن البقع المساجد، ومن الأيام الجمعة، ومن الليالي ليلة القدر، ومن الكلام ذكره فينبغي أن يعظم ما عظم الله، وقوله ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏، قالت فرقة‏:‏ معناه الحساب المستقيم، وقال ابن عباس فيما حكى المهدوي‏:‏ معناه القضاء المستقيم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والأصوب عندي أن يكون الدين ها هنا على أشهر وجوهه، أي ذلك الشرع والطاعة لله، ‏{‏القيم‏}‏ أي القائم المستقيم، وهو من قام يقوم بمنزلة سيد من ساد يسود أصله قيوم، وقوله ‏{‏فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏ الضمير عائد على ال ‏{‏اثنا عشر شهراً‏}‏، أي لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمن كله، وقال قتادة‏:‏ الضمير عائد على الأربعة الأشهر، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها بالتخصيص والذكر وإن كان منهياً عنه في كل الزمن، وزعم النحاة أن العرب تكنى عما دون العشرة من الشهور، فيهن وعما فوق العشرة فيها، وروي عن الكسائي أنه قال إني لأتعجب من فعل العرب هذا، وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي خلون وفيما فوقها خلت وقال الحسن معنى فيهن أي بسببهن ومن جراهن في أن تحلوا حرامها وتبدلوه بما لا حرمة له، وحكى المهدوي أنه قيل «لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتل»‏.‏ ثم نسخ بفرض القتال في كل زمن، قال سعيد بن المسيب في كتاب الطبري‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله في ذلك حتى نزلت براءة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقوله ‏{‏وقاتلوا المشركين‏}‏ معناه فيهن فأحرى في غيرهن، وقوله ‏{‏كافة‏}‏ معناه جميعاً وهو مصدر في موضع الحال، قال الطبري‏:‏ كالعاقبة والعافية فهو على هذا كما تقول خاصة وعامة، ويظهر أيضاً أنه من كف يكف أي جماعة تكف من عارضها وكذلك نقل الكافة أي تكف من خالفها، فاللفظة على هذا اسم فاعل، وقال بعض الناس‏:‏ معناه يكف بعضهم بعضاً عن التخلف، وما قدمناه أعم وأحسن، وقال بعض الناس‏:‏ كان الفرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك بعد وجعل فرض كفاية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الذي قالوه لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ألزم الأمة جميعاً النفر، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله ‏{‏كما يقاتلونكم‏}‏ فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم، وأما الجهاد الذي ينتدب إليه فإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به بعض الأمة سقط عن الغير، وقوله ‏{‏واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏ خبر في ضمنه أمر بالتقوى ووعد عليها بالنصر والتأييد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏النسيء‏}‏ على وزن فعيل مصدر بمعنى التأخير، تقول العرب أنسأ الله في أجلك ونسأ في أجلك‏.‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سره النساء في الأجل والسعة في الرزق فليصل رحمه» وقرأ جمهور الناس والسبعة «النسيء» كما تقدم، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه وقوم معه في الشاذ «النسيّء» بشد الياء، وقرأ فيما روى عنه جعفر بن محمد والزهري «النسيء»، وقرأ أيضاً فيما روي عنه «النسء» على وزن النسع وقرأت فرقة «النسي»‏.‏ فأما «النسيء» بالمد والهمز فقال أبو علي هو مصدر مثل النذير والنكير وعذير الحي ولا يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول لأنه يكون المعنى إنما المؤخر زيادة والمؤخر الشهر ولا يكون الشهر زيادة في الكفر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقال أبو حاتم هو فعيل بمعنى مفعول، وينفصل عن إلزام أبي علي بأن يقدر مضاف كان المعنى إنما إنساء النسيء، وقاله الطبري هو من معنى الزيادة أي زيادتهم في الأشهر، وقال أبو وائل كان النسيء رجلاً من بني كنانة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وأما «النسي» فهو الأول بعينه خففت الهمزة وقيل قلبت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء، وأما «النسء» هو مصدر من نسأ إذا أخر، وأما «النسي» فقيل تخفيف همزة النسيء وذلك على غير قياس، وقال الطبري هو مصدر من نسي ينسى إذا ترك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والنسيء هو فعل العرب في تأخيرهم الحرمة، وقوله ‏{‏زيادة في الكفر‏}‏ أي جار في كفرهم بالله وخلاف منهم للحق فالكفر متكثر بهذا الفعل الذي هو باطل في نفسه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومما وجد في أشعارها من هذا المعنى قول بعضهم‏:‏ ‏[‏الوفر‏]‏

ومنا منسئ الشهر القلمس *** وقال الآخر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

نسؤوا الشهور بها وكانوا أهلها *** من قبلكم والعز لم يتحول

ومنه قول جذل الطعان‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وقد علمت معدّ أَنَّ قومي *** كرام الناس أن لهم كراما

فأي الناس فاتونا بوتر *** وأي الناس لم تعلك لجاما

ألسنا الناسئين على معد *** شهور الحل نجعلها حراما

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يَضِل» بفتح الياء وكسر الضاد، وقرأ ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون «يُضِل» بضم الياء وكسر الضاد فإما على معنى يضل الله وإما على معنى يضل به الذين كفروا أتباعهم، ف ‏{‏الذين‏}‏ في التأويل الأول في موضع نصب، وفي الثاني في موضع رفع، وقرأ عاصم أيضاً وحمزة والكسائي وابن مسعود فيما روي عنه «يُضِل» بضم الياء وفتح الضاد على المفعول الذي لم يسم فاعله، ويؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زين‏}‏ للتناسب في اللفظ، وقرأ أبو رجاء «يَضل» من ضل يضل على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها وهي لغتان يقال ضل يضل وضل يضل والوزن الذي ذكرناه يفرق بينهما، وكذلك يروى قول النبي صلى الله عليه وسلم،

«حتى يضَل الرجل إن يدر كم صلى» بفتح الضاد وكسرها، وقوله ‏{‏يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً‏}‏ معناه عاماً من الأعوام وليس يريد أن تلك مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد تأول بعض الناس القصة أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم عليهم صفر بدلاً منه ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقه وأحل صفر، ومشت الشهور مستقيمة، ورأت هذه الطائفة أن هذه كانت حالة القوم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والذي قدمناه قبل أليق بألفاظ الآيات، وقد بينه مجاهد وأبو مالك، وهو مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم، «إن الزمان قد استدار» مع أن هذا الأمر كله قد تقضى والله أعلم‏.‏ أي ذلك كان، وقوله ‏{‏ليواطئوا‏}‏ معناه ليوافقوا والمواطأة الموافقة تواطأ الرجلان على كذا إذا اتفقا عليه، ومعنى ليواطئوا عدة ما حرم الله ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها بمثابة أن يفطر أحد رمضان ويصوم شهراً من السنة بغير مرض أو سفر، وقوله ‏{‏زين‏}‏ يحتمل هذا التزيين أن يضاف إلى الله عز وجل والمراد به خلقه لكفرهم وإقرارهم عليه وتحبيبه لهم، ويحتمل أن يضاف إلى مغويهم ومضلهم من الإنس والجن، ثم أخبر تعالى أنه لا يهديهم ولا يرشدهم، وهو عموم معناه الخصوص في الموافين أو عموم مطلق لكن لا هدية من حيث هم كفار‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذكر أبو علي البغدادي في أمر «النسيء» أنه كان إذا صدر الناس من منى قام رجل يقال له نعيم بن ثعلبة فيقول أنا الذي لا أعاب ولا يرد لي قضاء فيقولون أنسئنا شهراً أي أخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ واسم نعيم لم يعرف في هذا وما أرى ذلك إلا كما حكى النقاش من بني فقيم كانوا يسمون القلامس واحدهم قلمس وكانوا يفتون العرب في الموسم، يقوم كبيرهم في الحجر ويقوم آخر عند الباب ويقوم آخر عند الركن فيفتون‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهم على هذا عدة، منهم نعيم وصفوان ومنهم ذرية القلمس حذيفة وغيرهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «لا عدوى ولا هامة ولا صفر»، فقال بعض الناس‏:‏ إنه يريد بقوله لا صفر هذا النسيء، وقيل غير ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

هذه الآية هي بلا اختلاف نازلة عتاباً على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألفاً بين راكب وراجل، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون فالعتاب في هذه الآية هو للقبائل وللمؤمنين الذين كانوا بالمدينة، وخص الثلاثة كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية بذلك التذنيب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم، وكان تخلفهم لغير علة حسب ما يأتي، وقوله ‏{‏ما لكم‏}‏ استفهام بمعنى التقرير والتوبيخ، وقوله ‏{‏قيل‏}‏ يريد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن صرفه الفعل لا يسمى فاعلة يقتضي إغلاظاً ومخاشنة ما، و«النفر» هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث، يقال في ابن آدم نفر إلى الأمر ينفر نفيراً ونفراً، ويقال في الدابة نفرت تنفرُ بضم الفاء نفوراً، وقوله ‏{‏اثاقلتم‏}‏ أصله تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء فاحتيج إلى ألف الوصل كما قال ‏{‏فادارأتم‏}‏ وكما تقول ازين، وكما قال الشاعر ‏[‏الكسائي‏]‏‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

تولي الضجيع إذا ما استافها خصراً *** عذب المذاق إذا ما اتّابَع القبل

وقرأ الأعمش فيما حكى المهدوي وغيره «تثاقلتم» على الأصل، وذكرها أبو حاتم «تتثاقلتم» بتاءين ثم ثاء مثلثة، وقال هي خطأ أو غلط، وصوب «تثاقلتم» بتاء واحدة وثاء مثلثة أن لو قرئ بها، وقوله ‏{‏اثاقلتم إلى الأرض‏}‏ عبارة عن تخلفهم ونكولهم وتركهم الغزو لسكنى ديارهم والتزام نخلهم وظلالهم، وهو نحو من أخلد إلى الأرض، وقوله‏:‏ ‏{‏أرضيتم‏}‏ تقرير يقول أرضيتم نزر الدنيا على خطير الآخرة وحظها الأسعد، ثم أخبر فقال إن الدنيا بالإضافة إلى الآخرة قليل نزر، فتعطي قوة الكلام التعجب من ضلال من يرضى النزر بدل الكثير الباقي، وقوله ‏{‏إلا تنفروا‏}‏ الآية، ‏{‏إلا تنفروا يعذبكم‏}‏ شرط وجواب، وقوله ‏{‏يعذبكم‏}‏ لفظ عام يدخل تحته أنواع عذاب الدنيا والآخرة، والتهديد بعمومه أشد تخويفاً، وقالت فرقة يريد يعذبكم بإمساك المطر عنكم، وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة من القبائل فقعدت فأمسك الله عنها المطر وعذبها به، و‏{‏أليم‏}‏ بمعنى مؤلم بمنزلة قول عمرو بن معديكرب‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

أمن ريحانة الداعي السميع *** وقوله ‏{‏ويستبدل قوماً غيركم‏}‏ توعد بأن يبدل لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً لا يقعدون عند استنفاره إياهم، والضمير في وقوله ‏{‏ولا تضروه شيئاً‏}‏ عائد على الله عز وجل أي لا ينقص ذلك من عزه وعز دينه، ويحتمل أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وهو أليق، ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ أي على كل شيء مقدور وتبديلهم منه ليس بمحال ممتنع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

هذا أيضاً شرط وجواب والجواب في الفاء من قوله ‏{‏فقد‏}‏ وفيما بعدها، قال النقاش‏:‏ هذه أول آية نزلت من سورة براءة، ومعنى الآية أنكم إن تركتم نصره فالله متكفل به، إذ فقد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو، فنصره إياه اليوم أحرى منه حينئذ، وقوله ‏{‏إذ أخرجه الذين كفروا‏}‏ يريد فعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه، وأسند الإخراج إليهم إذ المقصود تذنيبهم، ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله‏:‏ من طردت كل مطرد، لم يقرره النبي صلى الله عليه وسلم، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وفي صحبته أبو بكر، واختصار القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أمر الله عز وجل في الهجرة من مكة، وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج من مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اصبر فلعل الله أن يسهل في الصحبة»، فلما أذن الله لرسوله في الخروج تجهز من دار أبي بكر وخرجا فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال، وخرج المشركون في أثرهم حتى انتهو إلى الغار، فطمس عليهم الأثر، وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو نظر أحدهم لقدمه لرآنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»‏.‏

ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار، ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يجعل ثماماً في باب الغار فتخيله المشركون نابتاً وصرفهم الله عنه، ووقع في الدلائل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبتت على باب الغار راءة أمرها الله بذلك في الحين، قال الأصمعي‏:‏ جمعها راء وهي نبات من السهل‏.‏

وروي أن أبا بكر لما دخل الغار خرق رداءه فسدَّ به كواء الغار لئلا يكون فيها حيوان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروي أنه بقيت واحدة فسدها برجله فوقى الله تعالى، وكان يروح عليهما باللبن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وقوله ‏{‏ثاني اثنين‏}‏ معناه أحد اثنين، وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة فالمعنى صير الثلاثة بنفسه أربعة، وقرأ جمهور الناس «ثانيَ اثنين» بنصب الياء من «ثاني»‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ لا يعرف غير هذا وقرأت فرقة «ثاني اثنين» بسكون الياء من ثاني، قال أبو الفتح‏:‏ حكاها أبو عمرو بن العلاء، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذه كقراءة ما بقي من الربا وكقوله جرير‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

هو الخليفةُ فارضوا ما رضي لكمُ *** ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

و «صاحبه» أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وروي أن أبا بكر الصديق قال يوماً وهو على المنبر‏:‏ أيكم يحفظ سورة التوبة، فقال رجل أنا، فقال اقرأ فقرأ، فلما انتهى إلى قوله ‏{‏إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا‏}‏ بكى وقال أنا والله صاحبه، وقال الليث‏:‏ ما صحب الأنبياء مثل أبي بكر الصديق، وقال سفيان بن عيينة‏:‏ خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله‏:‏ ‏{‏إلا تنصروه‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ أقول بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ولم يتخلف، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط، أما إن هذه الآية منوهة بأبي بكر حاكمة بقدمه وسابقته في الإسلام رضي الله عنه، وقوله‏:‏ ‏{‏إن الله معنا‏}‏ يريد به النصر والإنجاء واللطف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأنزل الله سكينته عليه‏}‏ الآية، قال حبيب بن أبي ثابت‏:‏ الضمير في ‏{‏عليه‏}‏ عائد على أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل ساكن النفس ثقة بالله عز وجل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول من لم ير السكينة إلا سكون النفس والجأش، وقال جمهور الناس‏:‏ الضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أقوى، و«السكينة» عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم والخصائص التي لا تصلح إلا لهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيه سكينة من ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 248‏]‏ ويحتمل أن يكون قوله ‏{‏فأنزل الله سكينته‏}‏ إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة، فعلى هذا تكون «الجنود» الملائكة النازلين ببدر وحنين، ومن رأى أن الآية مختصة بتلك القصة قال «الجنود» ملائكة بشروه بالنجاة وبأن الكفار لا ينجح لهم سعي، وفي مصحف حفصة «فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما»، وقرأ مجاهد «وأأيده» بألفين، والجمهور «وأيّده» بشد الياء، وقوله‏:‏ ‏{‏وجعل كلمة الذين كفروا السفلى‏}‏ يريد بإدحارها ودحضها وإذلالها، ‏{‏وكلمة الله هي العليا‏}‏ قيل يريد لا إله الا الله، وقيل الشرع بأسره، وقرأ جمهور الناس «وكلمةُ» بالرفع على الابتداء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويعقوب «وكلمةَ» بالنصب على تقدير وجعل كلمة، قال الأعمش‏:‏ ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبيّ بن كعب «وجعل كلمته هي العليا»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

هذا أمر من الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنفر إلى الغزو فقال بعض الناس هذا أمر عام لجميع المؤمنون تعين به الفرض على الأعيان في تلك المدة، ثم نسخه الله عز وجل، بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏، روي ذلك عن الحسن وعكرمة، وقال جل الناس‏:‏ بل هذا حض والأمر في نفسه موقوف على فرض الكفاية ولم يقصد بالآية فرضه على الأعيان، وأما قوله ‏{‏خفافاً وثقالاً‏}‏ فنصب على الحال من الضمير في قوله ‏{‏انفروا‏}‏، ومعنى الخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه كالعمي ونحوهم فخارج عن هذا‏.‏

وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أعليَّ أن أنفر‏؟‏ فقال له نعم، حتى نزلت ‏{‏ليس على الأعمى حرج‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏، وذكر الناس من معاني الخفة والثقل أشياء لا وجه لتخصيص بعضها دون بعض، بل هي وجوه متفقة، فقيل «الخفيف» الغني «والثقيل» الفقير‏:‏ قاله مجاهد، وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ قاله الحسن وجماعة، وقيل الخفيف النشيط والثقيل الكاسل، قاله ابن عباس وقتادة، وقيل المشغول ومن لا شغل له قاله الحكم بن عيينة وزيد بن علي، وقيل الذي له ضيعة هو الثقيل ومن لا ضيعة له هو الخفيف قاله ابن زيد‏:‏ وقيل الشجاع هو الخفيف والجبان هو الثقيل حكاه النقاش، وقيل الرجل هو الثقيل والفارس هو الخفيف قاله الأوزاعي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذان الوجهان الآخران ينعكسان وقد قيل ذلك ولكنه بحسب وطأتهم على العدو فالشجاع هو الثقيل وكذلك الفارس والجبان هو الخفيف وكذلك الراجل وكذلك ينعكس الفقير والغني فيكون الغني هو الثقيل بمعنى صاحب الشغل ومعنى هذا أن الناس أمروا جملة‏.‏

وهذه الأقوال إنما هي على معنى المثال في الثقل والخفة، وقال أبو طلحة‏:‏ ما أسمع الله عذراً أحداً وخرج إلى الشام فجاهد حتى مات‏.‏

وقال أبو أيوب‏:‏ ما أجدني أبداً إلا ثقيلاً أو خفيفاً، وروي أن بعض الناس رأى في غزوات الشام رجلاً سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقال له يا عم إن الله قد عذرك، فقال يا ابن أخي إنَّا قد أمرنا بالنفر خفافاً وثقالاً، وأسند الطبري عمن رأى المقداد بن الأسود بحمص وهو على تابوت صراف وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو فقال له لقد عذرك الله، فقال أتت علينا سورة البعوث ‏{‏انفروا خفافاً وثقالاً‏}‏، وروي سورة البحوث، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأموالكم وأنفسكم‏}‏ وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفسه عند الله تعالى‏:‏ فحض على كمال الأوصاف، وقدمت الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز فرتب الأمر كما هو في نفسه، ثم أخبر أن ذلك لهم خير للفوز برضى الله وغلبة العدو ووراثة الأرض، وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ تنبيه وهز للنفوس، وقوله‏:‏ ‏{‏لو كان عرضاً قريباً‏}‏ الآية، ظاهر هذه الآية وما يحفظ من قصة تبوك أن الله لما أمر رسوله بغزو الروم نذب الناس وكان ذلك في شدة من الحر وطيب من الثمار والظلال، فنفر المؤمنون، واعتذر منهم لا محالة فريق لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة، ويدل على ذلك قوله في أول هذه الآية

‏{‏يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏، لأن هذا الخطاب ليس للمنافقين خاصة بل هو عام، واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة، وكانوا بسبيل كسل مفرط وقصد للتخلف وكانت أعذار المؤمنين خفيفة ولكنهم تركوا الأولى من التحامل، فنزل ما سلف من الآيات في عتاب المؤمنين، ثم ابتدأ من هذه الآية ذكر المنافقين وكشف ضمائرهم، فيقول لو كان هذا الغزو لعرض أي لمال وغنيمة تنال قريباً بسفر قاصد يسير لبادروا إليه، لا لوجه الله ولا لظهور كلمته، ولكن بعدت عليهم الشقة في غزو الروم أي المسافة الطويلة، وذكر أبو عبيدة أن أعرابياً قدم البصرة وكان قد حمل حمالة فعجز عنها، وكان معه ابن له يسمى الأحوص فبادر الأحوص أباه بالقول، فقال إنا من تعلمون وابنا سبيل وجئنا من شقة ونطلب في حق وتنطوننا ويجزيكم الله فتهيأ أبوه ليخطب فقال له يا إياك إني قد كفيتك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يا تنبيه وإياك نهي، وقرأ عيسى ابن عمر «الشِّقة» بكسر الشين، وقرأ الأعرج «بعِدت» بكسر العين، وحكى أبو حاتم أنها لغة بني تميم في اللفظتين، وقوله ‏{‏سيحلفون بالله‏}‏ يريد المنافقين، وهذا إخبار بغيب، وقوله ‏{‏يهلكون أنفسهم‏}‏ يريد عند تخلفهم مجاهرة وكفرهم، فكأنهم يوجبون على أنفسهم الحتم بعذاب الله‏.‏

ثم أخبر أن الله الذي هو أعدل الشاهدين يعلم كذبهم وأنهم كانوا يستطيعون الخروج ولكنهم تركوه كفراً ونفاقاً، وهذا كله في الجملة لا بتعيين شخص ولو عين لقتل بالشرع، وقرأ الأعمش على جهة التشبيه بواو ضمير الجماعة «لوُ استطعنا» بضم الواو، ذكره ابن جني، ومثله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد ابتغوا الفتنة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 48‏]‏ ‏{‏فتمنوا الموت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 94‏]‏ و‏{‏اشتروا الضلالة‏}‏ ‏[‏البقرة 16-175‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏43‏)‏ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق واستأذنوا دون اعتذار، منهم عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ورفاعة بن التابوت ومن اتبعهم فقال بعضهم إيذن لي ولا تفتني وقال بعضهم إيذن لنا في الإقامة فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استيفاء منه صلى الله عليه وسلم، وأخذاً بالأسهل من الأمور وتوكلاً على الله، وقال مجاهد إن بعضهم قال نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإلا قعدنا فنزلت الآية في ذلك‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ إن رسول صلى الله عليه وسلم، أذن لهم دون أن يؤمر بذلك فعفي عنه ما يلحق من هذا، وقدم له ذكر العفو قبل العتاب إكراماً له صلى الله عليه وسلم، وقال عمرو بن ميمون الأودي‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدع برأيه في قصتين دون أن يؤمر فيهما بشيء‏.‏

هذه، وأمر أسارى بدر، فعاتبه الله فيهما، وقالت فرقة بل قوله في هذه الآية ‏{‏عفا الله عنك‏}‏ استفتاح كلام، كما تقول أصلحك الله وأعزك الله، ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم، ذنب يعفى عنه لأن صورة الاستنفار قبول الإعذار مصروفة إلى اجتهاده، وأما قوله ‏{‏لم أذنت‏}‏ فهي على معنى التقرير، وقوله ‏{‏الذين صدقوا‏}‏ يريد استئذانك وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك وقوله ‏{‏وتعلم الكاذبين‏}‏ يريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهو كذبة قد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن، وقال الطبري معناه حتى تعلم الصادقين في أن لهم عذراً والكاذبين في أن لا عذر لهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى هذا التأويل يختلط المتعذرون وقد قدمنا أن فيهم مؤمنين كالمستأذنين وهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر والأول أصوب والله أعلم‏.‏

وأدخل الطبري أيضاً في تفسير هذه الآية عن قتادة أن هذه الآية نزلت بعدها الآية الأخرى في سورة النور ‏{‏فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 62‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا غلط لأن آية النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات، فأباح الله له أن يأذن فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى، وقوله ‏{‏لا يستأذنك‏}‏ الآية‏.‏ نفي عن المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في التخلف دون عذر كما فعل الصنف المذكور من المنافقين، وقوله ‏{‏أن يجاهدوا‏}‏ يحتمل أن تكون ‏{‏أن‏}‏ في موضع نصب على معنى لا يستأذنون في التخلف كراهية أن يجاهدوا، قال سيبويه ويحتمل أن تكون في موضع خفض‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ على معنى لا يحتاجون إلى أن يستأذنوا في أن يجاهدوا بل يمضون قدماً، أي فهم أحرى ألا يستأذنوا في التخلف، ثم أخبر بعلمه تعالى ‏{‏بالمتقين‏}‏ وفي ذلك تعيير للمنافقين وطعن عليهم بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ‏(‏45‏)‏ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏46‏)‏ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

هذه الآية تنص على أن المسأذنين إنما هم مخلصون للنفاق، ‏{‏وارتابت قلوبهم‏}‏ معناه شكّت، والريب نحو الشك، ‏{‏يترددون‏}‏ أي يتحيرون لا يتجه لهم هدى، ومن هذه الآية نزع أهل الكلام في حد الشك أنه تردد بين أمرين، والصواب في حده أنه توقف بين أمرين، والتردد في الآية إنما هو في ريب هؤلاء المنافقين إذ كانوا تخطر لهم صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً، وأنه غير صحيح أحياناً، ولم يكونوا شاكين طالبين للحق لأنه كان يتضح لهم لو طلبوه، بل كانوا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كالشاة الحائرة بين الغنمين، وأيضاً فبين الشك والريب فرق ما، وحقيقة الريب إنما هو الأمر يستريب به الناظر فيخلط عليه عقيدته فربما أدى إلى شك وحيرة وربما أدى إلى علم ما في النازلة التي هو فيها، ألا ترى أن قول الهذلي‏:‏

كأني أريته بريب *** لا يتجه أن يفسر بشك قال الطبري‏:‏ وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية التي ذكرنا في سورة النور، وأسند عن الحسن وعكرمة أنهما قالا في قول ‏{‏لا يستأذنك الذين يؤمنون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 44‏]‏ إلى قوله ‏{‏فهم في ريبهم يترددون‏}‏ نسختها الآية التي في النور، ‏{‏إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏الآية‏:‏ 62‏]‏ إلى ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا غلط وقد تقدم ذكره، وقوله تعالى ‏{‏ولو أرادوا الخروج‏}‏ الآية، حجة على المنافقين، أي ولو أرادوا الخروج بنياتهم لنظروا في ذلك واستعدوا له قبل كونه، و«العدة» ما يعد للأمر ويروى له من الأشياء، وقرأ جمهور الناس «عُدة» بضم العين وتاء تأنيث، وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية بن محمد «عُدة» بضم العين وهاء إضمار يريد «عدته» فحذفت تاء التأنيث لما أضاف، كما قال «وأقام الصلاة» يريد إقامة الصلاة، هذا قول الفراء، وضعفه أبو الفتح، وقال إنما خذف تاء التأنيث وجعل هاء الضمير عوضاً منها، وقال أبو حاتم‏:‏ هو جمع عدة على عد، كبرة وكبر ودرة ودر، والوجه فيه عدد ولكن لا يوافق خط المصحف، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبان وزر بن حبيش «عِده» بكسر العين وهاء إضمار وهو عندي اسم لما يعد كالريح والقتل لأن العدو سمي قتلاً إذ حقه أن يقتل هذا في معتقد العرب حين سمته، ‏{‏انبعاثهم‏}‏ نفوذهم لهذه الغزوة، و«التثبيط» التكسيل وكسر العزم، وقوله ‏{‏وقيل‏}‏، يحتمل أن يكون حكاية عن الله تعالى أي قال الله في سابق قضائه ‏{‏اقعدوا مع القاعدين‏}‏، ويحتمل أن يكون حكاية عنهم أي كانت هذه مقالة بعضهم لبعض إما لفظاً وإماً معنى، فحكي في هذه الألفاظ التي تقتضي لهم مذمة إذ القاعدون النساء والأطفال، ويحتمل أن يكون عبارة عن إذن محمد صلى الله عليه وسلم عبارة عن التخلف والتراخي كما هو في قول الشاعر‏:‏

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي *** وليس للهيئة في هذا كله مدخل، وكراهية الله انبعاثهم رفق بالمؤمنين وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو خرجوا فيكم‏}‏ الآية، خبر بأنهم لو خرجوا لكان خروجهم مضرة، وقولهم ‏{‏إلا خبالاً‏}‏ استثناء من غير الأول، وهذا قول من قدر أنه لم يكن في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبال، فيزيد المنافقون فيه، فكأن المعنى ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالاً، ويحتمل أن يكون استثناء غير منقطع وذلك أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك كان فيه منافقون كثير ولهم لا محالة خبال، فلو خرج هؤلاء لالتأموا مع الخارجين فزاد الخبال، والخبال الفساد في الأشياء المؤتلفة الملتحمة كالمودات وبعض الأجرام، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

يا بني لبينى لستما بيدِ *** إلاّ يداً مخبولة العضدِ

وقرأ ابن أبي عبلة «ما زادكم» بغير واو، وقرأ جمهور الناس ‏{‏لأوضعوا‏}‏ ومعناه لأسرعوا السير، و‏{‏خلالكم‏}‏ معناه فيما بينكم من هنا إلى هنا يسد الموضع الخلة بين الرجلين، والإيضاع سرعة السير، وقال الزجّاج ‏{‏خلالكم‏}‏ معناه فيما يخل بكم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ضعيف، وماذا يقول في قوله‏:‏ ‏{‏فجاسوا خلال الديار‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 5‏]‏ وقرأ مجاهد فيما حكى النقاش عنه، «ولأوفضوا» وهو أيضاً بمعنى الإسراع ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى نصب يوفضون‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 43‏]‏، وحكي عن الزبير أنه قرأ «ولأرفضوا» قال أبو الفتح‏:‏ هذه من رفض البعير إذا أسرع في مشيه رقصاً ورقصاناً، ومنه قول حسان بن ثابت‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

رقص القلوص براكب مستعجل *** ووقعت «ولا أوضعوا» بألف بعد «لا» في المصحف، وكذلك وقعت في قوله ‏{‏أو لأذبحنه‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 21‏]‏، قيل وذلك لخشونة هجاء الأولين قال الزجّاج‏:‏ إنما وقعوا في ذلك لأن الفتحة في العبرانية وكثير من الألسنة تكتب ألفاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن تمطل حركة اللام فيحدث بين اللام والهمزة التي من أوضع، وقوله‏:‏ ‏{‏يبغونكم الفتنة‏}‏ أي يطلبون لكم الفتنة، وقوله ‏{‏وفيكم سماعون‏}‏ قال سفيان بن عيينة والحسن ومجاهد وابن زيد معناه جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم، ورجحه الطبري، قال النقاش‏:‏ بناء المبالغة يضعف هذا القول، وقال جمهور المفسرين معناه وفيكم مطيعون سامعون لهم، وقوله ‏{‏والله عليم بالظالمين‏}‏ توعد لهم ولمن كان من المؤمنين على هذه الصفة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 51‏]‏

‏{‏لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏48‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏49‏)‏ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ‏(‏50‏)‏ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

في هذه الآية تحقير شأنهم، وذلك أنه أخبر أنهم قد لما سعوا على الإسلام فأبطل الله سعيهم، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ ما كان من حالهم من وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه سلم ورجوعهم عنه في أحد وغيرها، ومعنى ‏{‏وقلبوا لك الأمور‏}‏ دبروها ظهراً لبطن ونظروا في نواحيها وأقسامها وسعوا بكل حيلة، وقرأ مسلمة بن محارب «وقلَبوا لك» بالتخفيف في اللام، و‏{‏أمر الله‏}‏ الإسلام ودعوته، وقوله تعالى ‏{‏ومنهم من يقول ائذن لي‏}‏ نزلت في الجد بن قيس، «وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس هل لك العام في جلاد بني الأصفر، وقال له وللناس‏:‏ اغزوا تغنموا بنات الأصفر»، فقال له الجد بن قيس‏:‏ ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكر بنات الأصفر، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهن، ذكر ابن إسحاق ونحو هذا من القول الذي فيه فتور كثير وتخلف في الاعتذار، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اغزوا تبوك تغنموا بنات الأصفر»، فقال الجد ائذن ولا تفتنا بالنساء، وهذا منزع الأول إذا نظر، وهو أشبه بالنفاق والمحادة، وقال ابن عباس إن الجد قال‏:‏ ولكني أعينك بمالي، وتأول بعض الناس قوله ‏{‏ولا تفتني‏}‏ أي لا تصعب علي حتى أحتاج إلى مواقعة معصيتك ومخالفتك، فسهل أنت عليّ ودعني غير مجلح، وهذا تأويل حسن واقف مع اللفظ، لكن تظاهر ما روي من ذكر بنات الأصفر، وذلك معترض في هذا التأويل، وقرأ عيسى بن عمر «ولا تُفتني» بضم التاء الأولى قال أبو حاتم هي لغة بني تميم، والأصفر هو الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما السلام وكان أصفر اللون فيقال للروم بنو الأصفر، ومن ذلك قول أبي سفيان‏:‏ أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر، ومنه قول الشاعر ‏[‏عدي بن زيد العبادي‏]‏‏:‏ ‏[‏الخفيف‏]‏

وبنو الأصفر الكرام ملوك الر *** وم لم يبق منهمُ مذكور

وذكر النقاش والمهدوي أن الأصفر رجل من الحبشة وقع ببلاد الروم فتزوج وأنسل بنات لهن جمال وهذا ضعيف، وقوله‏:‏ ‏{‏ألا في الفتنة سقطوا‏}‏ أي في الذي أظهروا الفرار منه بما تبين لك وللمؤمنين من نفاقهم وصح عندكم من كفرهم وفسد مما بينكم وبينهم، و‏{‏سقطوا‏}‏ عبارة منبئة عن تمكن وقوعهم ومنه على الخبير سقطت، ثم قال ‏{‏وإن جهنم لمحيطة بالكافرين‏}‏، وهذا توعد شديد لهم أي هي مآلهم ومصيرهم كيف ما تقلبوا في الدنيا فإليها يرجعون فهي محيطة بهذا الوجه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تصبك حسنة‏}‏ الآية، أخبر تعالى عن معتقدهم وما هم عليه، و«الحسنة» هنا بحسب الغزوة هي الغنيمة والظفر، و«المصيبة» الهزم والخيبة، واللفظ عام بعد ذلك في كل محبوب ومكروه، ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏قد أخذنا أمرنا من قبل‏}‏، أي حزمنا نحن في تخلفنا ونظرنا لأنفسنا، وقوله تعالى ‏{‏قل لن يصيبنا‏}‏ الآية، أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يرد على المنافقين ويفسد عليهم فرحهم بأن يعلمهم أن الشيء الذي يعتقدونه مصيبة ليس كما اعتقدوه، بل الجميع مما قد كتبه الله عز وجل للمؤمنين، فإما أن يكون ظفراً وسروراً في الدنيا وإما أن يكون ذخراً للآخرة، وقرأ طلحة بن مصرف «قل هل يصيبنا»، ذكره أبو حاتم، وعند ابن جني وقرأ طلحة بن مصرف وأعين قاضي الري «قل لن يصيِّبنا» بشد الياء التي بعد الصاد وكسرها كذا ذكر أبو الفتح وشرح ذلك وهو وهم، والله أعلم‏.‏

قال أبو حاتم‏:‏ قال عمرو بن شفيق سمعت أعين قاضي الري يقرأ «قل لن يصيبنا» النون مشددة، قال أبو حاتم‏:‏ ولا يجوز ذلك لأن النون لا تدخل مع لن، ولو كانت لطلحة بن مصرف لجازت لأنها مع «هل»، قال الله عز وجل ‏{‏هل يذهبن كيده ما يغيظ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كتب الله‏}‏ يحتمل أن يريد ما قضى وقدر‏.‏

ويحتمل أن يريد ما كتب الله لنا في قرآننا علينا من أنّا إما أن نظفر بعدونا وإما أن نستشهد فندخل الجنة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الاحتمال يرجع إلى الأول وقد ذكرهما الزجّاج، وقوله‏:‏ ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏، معناه مع سعيهم وجدهم إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا قول أكثر العلماء وهو الصحيح، والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، مدة عمره ومنه مظاهرته بين درعين، وتخبط الناس في معنى التوكل في الرزق فالأشهر والأصح أن الرجل الذي يمكنه التحرف الحلال المحض الذي لا تدخله كراهية ينبغي له أن يمتثل منه ما يصونه ويحمله كالاحتطاب ونحوه، وقد قرن الله تعالى الرزق بالتسبب، ومنه ‏{‏وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليكم رطباً جنياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 25‏]‏ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الطير‏:‏ «تغدو خماصاً» الحديث‏.‏

ومنه قوله‏:‏ «قيدها وتوكل» وذهب بعض الناس إلى أن الرجل القوي الجلد إذا بلغ من التوكل إلى أن يدخل غاراً أو بيتاً يجهل أمره فيه ويبقى في ذكر الله متوكلاً يقول إن كان بقي لي رزق فسيأتي الله به وإن كان رزقي قد تم مت إذ ذلك حسن بالغ عند قوم، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه كان في الحرم رجل ملازم، يخرج من جيبه المرة بعد المرة بطاقته ينظر فيها ثم يصرفها ويبقى على حاله حتى مات في ذلك الموضع، فقرأت البطاقة فإذا فيها مكتوب

‏{‏واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه الطريقة لا يراها جل أهل العلم بل ينبغي أن يسعى الرجل لقدر القوت سعياً جميلاً لا يواقع فيه شبهة، فإن تعذر عليه جميع ذلك وخرج إلى حد الاضطرار فحيئذ إن تسامح في السؤال وأكل الميتة وما أمكنه من ذلك فهو له مباح، وإن صبر وتحتسب نفسه كان في أعلى رتبة عند قوم، ومن الناس من يرى أن فرضاً عليه إبقاء رمقه وأما من يختار الإلقاء باليد- والسعي ممكن- فما كان هذا قط من خلق الرسول ولا الصحابة ولا العلماء، والله سبحانه الموفق للصواب، ومن حجج من يقول بالتوكل حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله «يدخل الجنة سبعون ألفاً من أمتي بلا حساب وهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطببون وعلى ربهم يتوكلون»، وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لعكاشة بن محصن أن يكون منهم، فقيل ذلك لأنه عرف منه أنه معد لذلك، وقال للآخر سبقك بها عكاشة ورُدّت الدعوة، فقيل‏:‏ ذلك لأنه كان منافقاً، وقيل بل عرف منه أنه لا يصح لهذه الدرجة من التوكل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ‏(‏52‏)‏ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

فالمعنى في هذه الآية الرد على المنافقين في معتقدهم في المؤمنين، وإزالة ظنهم أن المؤمنين تنزل بهم مصائب، والإعلام بأنها حسنى كيف تصرفت، و‏{‏تربصون‏}‏ معناه تنتظرون و«الحسنيان» الشهادة والظفر وقرأ ابن محيصن‏:‏ «إلا احدى الحسنيين» بوصل ألف ‏{‏إحدى‏}‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه لغة ليست بالقياس وهذا مثل قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

يا أبا المغيرة رب أمر معضل *** وقول الآخر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

إن لم أقاتل فالبِسيني برقعا *** وقوله ‏{‏بعذاب من عنده‏}‏، يريد الموت بأخذات الأسف، ويحتمل أن يكون توعداً بعذاب الآخرة، وقوله ‏{‏بأيدينا‏}‏، يريد القتل وقيل ‏{‏بعذاب من عنده‏}‏ يريد أنواع المصائب والقوارع وقوله‏:‏ ‏{‏فتربصوا إنَّا معكم متربصون‏}‏ وعيد وتهديد، وقوله ‏{‏قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً‏}‏ سببها‏:‏ أن الجد بن قيس حين قال ‏{‏ائذن لي ولا تفتني‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 49‏]‏ قال إني أعينك بمال فنزلت هذه الآية فيه وهي عامة بعده، والطوع والكره يعمان كل إنفاق، وقرأ ابن وثاب والأعمش «وكُرها» بضم الكاف‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويتصل ها هنا ذكر أفال الكافر إذا كانت براً كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة المظلوم هل ينتفع بها أم لا، فاختصار القول في ذلك أن في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن ثواب الكافر على أفعاله البرة هو في الطعمة يطعمها» ونحو ذلك، فهذا مقنع لا يحتاج معه إلى نظر وأما ينتفع بها في الآخرة فلا، دليل ذلك أن عائشة أم المؤمنين قالت للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله‏:‏ أرأيت عبد الله بن جدعان أينفعه ما كان يطعم ويصنع من خير فقال‏:‏ «لا إنه لم يقل يوماً، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» ودليل آخر في قول عمر رضي الله عنه لابنه‏:‏ ذاك العاصي بن وائل لا جزاه الله خيراً وكان هذا القول بعد موت العاصي، الحديث بطوله، ودليل ثالث في حديث حكيم بن حزام على أحد التأويلين‏:‏ أعني في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أسلمت على ما سلف لك من خير»، ولا حجة في أمر أبي طالب كونه في ضحضاح من نار لأن ذلك إنما هو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وبأنه وجده في غمرة النار فأخرجه، ولو فرضنا أن ذلك بأعماله لم يحتج إلى شفاعة، وأما أفعال الكافر القبيحة فإنها تزيد في عذابه وبذلك هو تفاضلهم في عذاب جهنم، وقوله‏:‏ ‏{‏أنفقوا‏}‏ أمر في ضمنه جزاء وهذا مستمر في كل أمر معه جواب فالتقدير‏:‏ إن لم تنفقوا لم يتقبل منكم، وأما إذا عري الأمر من جواب فليس يصحبه تضمن الشرط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 56‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ‏(‏54‏)‏ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏55‏)‏ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

يحتمل أن يكون معنى الآية‏:‏ وما منعهم الله من أن تقبل إلا لأجل أنهم كفروا، ف ‏{‏أن‏}‏ الأولى على هذا في موضع خفض نصبها الفعل حين زال الخافض، و«أن» الثانية، في موضع نصب مفعول من أجله، ويحتمل أن يكون التقدير‏:‏ وما منعهم الله قبول نفقاتهم إلا لأجل كفرهم، فالأولى على هذا في موضع نصب، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ وما منعهم الله قبول نفقاتهم إلا كفرهم، فالثانية في موضع رفع فاعلة، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم‏:‏ «أن تقبل منهم نفقاتهم» وقرأ حمزة والكسائي ونافع فيما روي عنه‏:‏ «أن يقبل منهم نفقاتهم» بالياء وقرأ الأعرج بخلاف عنه‏:‏ أن تقبل منهم نفقتهم «بالتاء من فوق وإفراد النفقة، وقرأ الأعمش،» أن يقبل منهم صدقاتهم، وقرأت فرقة‏:‏ «أن نقبل منهم نفقتهم» بالنون ونصب النفقة، و‏{‏كسالى‏}‏ جمع كسلان، وكسلان إذا كانت مؤنثته كسلى لا ينصرف بوجه وإن كانت مؤنثته كسلانة فهو ينصرف في النكرة ثم أخبر عنهم تعالى أنهم «لا ينفقون دومة إلا على كراهية» إذ لا يقصدون بها وجه الله ولا محبة المؤمنين، فلم يبق إلا فقد المال وهو من مكارههم لا محالة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تعجبك أموالهم‏}‏ الآية، حقر هذا اللفظ شأن المنافقين وعلل إعطاء الله لهم الأموال والأولاد بإرادته تعذيبهم بها، واختلف في وجه التعذيب فقال قتادة‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، فالمعنى «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة»، وقال الحسن‏:‏ الوجه في التعذيب أنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فالضمير في قوله ‏{‏بها‏}‏ عائد في هذا القول على «الأموال» فقط، وقال ابن زيد وغيره‏:‏ «التعذيب» هو بمصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب إذ لا يؤجرون عليها، وهذا القول وإن كان يستغرق قول الحسن فإن قول الحسن يتقوى تخصيصه بأن تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا وذلك لاقتران الذلة والغلبة بأوامر الشريعة لهم قوله‏:‏ ‏{‏وتزهق انفسهم‏}‏، يحتمل أن يريد ويموتون على الكفر، ويحتمل أن يريد «وتزهق أنفسهم» من شدة التعذيب الذي ينالهم، وقوله ‏{‏وهم كافرون‏}‏ جملة في موضع الحال على التأويل الأول، وليس يلزم ذلك على التأويل الثاني، وقوله ‏{‏ويحلفون‏}‏ الآية، أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يحلفون أنهم من المؤمنين في الدين والشريعة ثم أخبر تعالى عنهم على الجملة لا على التعيين أنهم ليسوا من المؤمنين، وإنما هم يفزعون منهم فيظهرون الإيمان وهو يبطنون النفاق، و«الفرق»، الخوف، والفروقة الجبان وفي المثل وفرق خير من حبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ‏(‏57‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

«الملجأ» من لجأ يلجأ إذا أوى واعتصم، وقرأ جمهور الناس «أو مَغارات» بفتح الميم، وقرأ سعيد بن عبد الرحمن بن عوف «أو مُغارات» بضم الميم وهي الغيران في أعراض الجبال ففتح الميم من غار الشيء إذا دخل كما تقول غارت العين إذا دخلت في الحجاج، وضم الميم من أغار الشيء غيره إذا أدخله، فهذا وجه من اشتقاق اللفظة، وقيل إن العرب تقول‏:‏ غار الرجل وأغار بمعنى واحد أي دخل، قال الزجّاج‏:‏ إذا دخل الغور فيحتمل أن تكون اللفظة أيضاً من هذا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويصح في قراءة ضم الميم أن تكون من قولهم حبل مُغار أي مفتول ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبروم، فيجيء التأويل على هذا‏:‏ لو يجدون عصرة أو أموراً مرتبطة مشددة تعصمهم منكم أو مدخلاً لولوا إليه، وقرأ جمهور الناس «أو مُدخلاً» أصله مفتعل وهو بناء تأكيد ومبالغة ومعناه السرب والنفق في الأرض، وبما ذكرناه في الملجأ والمغارات، «والمُدخل» فسر ابن عباس رضي الله عنه، وقال الزجّاج «المُدخل» معناه قوماً يدخلونهم في جملتهم وقرأ مسلمة بن محارب والحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «أو مَدخلاً» فهذا من دخل وقرأ قتادة وعيسى بن عمر والأعمش «أو مدّخّلاً» بتشديدهما وقرأ أبي بن كعب «مندخلاً» قال أبو الفتح هذا كقول الشاعر ‏[‏الكميت‏]‏‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

ولا يدي في حميت السمن تندخل *** قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقال أبو حاتم‏:‏ قراءة أبي بن كعب «متدخلاً» بتاء مفتوحة، وروي عن الأعمش وعيسى «مُدخلاً» بضم الميم فهو من أدخل، وقرأ الناس ‏{‏لولوا‏}‏ وقرأ جد أبي عبيدة بن قرمل «لوالوا» من الموالاة، وأنكرها سعيد بن مسلم وقال‏:‏ أظن لوالوا بمعنى للجؤوا، وقرأ جمهور الناس، «يجمحون» معناه يسرعون مصممين غير منثنين، ومنه قول مهلهل‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

لقد جمحت جماحاً في دمائهم *** حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا

وقرأ أنس بن مالك «يجمزون» ومعناه يهربون، ومنه قولهم في حديث الرجم‏:‏ فلما إذ لقته الحجارة جمزة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من يلمزك‏}‏ الآية، الضمير في قوله ‏{‏ومنهم‏}‏ عائد على المنافقين، وأسند الطبري إلى أبي سعيد الخدري أنه قال‏:‏ جاء ابن ذي الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً فقال‏:‏ اعدل يا محمد الحديث المشهور بطوله، وفيه قال أبو سعيد‏:‏ فنزلت في ذلك ‏{‏ومنهم من يلمزك في الصدقات‏}‏، وروى داود بن أبي عاصم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصدقة فقسمها ووراءه رجل من الأنصار فقال‏:‏ ما هذا بالعدل فنزلت الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه نزعة منافق، وكذلك روي من غير ما طريق أن الآية نزلت بسبب كلام المنافقين إذ لم يعطوا بحسب شطط آمالهم، و‏{‏يلمزك‏}‏ معناه يعيبك ويأخذ منك في الغيبة ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة *** وأن أغيب فأنت الهامز اللمزة

ومنه قول رؤبة‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

في ظل عصري باطلي ولمزي *** والهمز أيضاً في نحو ذلك ومنه قوله تعالى ‏{‏ويل لكل همزة لمزة‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 1‏]‏ وقيل لبعض العرب‏:‏ أتهمز الفأرة فقال‏:‏ إنها تهمزها الهرة قال أبو علي‏:‏ فجعل الأكل همزاً، وهذه استعارة كما استعار حسان بن ثابت الغرث في قوله‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل *** تركيباً على استعارة الأكل في الغيبة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولم يجعل الأعرابي الهمز الأكل، وإنما أراد ضربها إياها بالناب والظفر، وقرأ جمهور الناس «يلمِزك» بكسر الميم، وقرأ ابن كثير فيما روى عنه حماد بن سلمة «يلمُزك» بضم الميم، وهي قراءة أهل مكة وقراءة الحسن وأبي رجاء وغيرهم، وقرأ الأعمش «يُلمّزك»، وروى أيضاً حماد بن سلمة عن ابن كثير «يلامزك»، وهي مفاعلة من واحد لأنه فعل لم يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله ‏{‏ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله‏}‏ الآية، وصف للحال التي ينبغي أن يكون عليها المستقيمون، يقول تعالى‏:‏ ولو أن هؤلاء المنافقين رضوا قسمة الله الرزق لهم وما أعطاهم على يدي رسوله ورجوا أنفسهم فضل الله ورسوله وأقروا بالرغبة إلى الله لكان خيراً لهم وأفضل مما هم فيه، وحذف الجواب من الآية لدلالة ظاهر الكلام عليه، وذلك من فصيح الكلام وإيجازه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏إنما‏}‏ في هذه الآية حاصرة تقتضي وقوف ‏{‏الصدقات‏}‏ على الثمانية الأصناف، وإنما اختلف في صورة القسمة فقال مالك وغيره‏:‏ ذلك على قدر اجتهاد الإمام وبحسب أهل الحاجة، وقال الشافعي‏:‏ هي ثمانية أقسام على ثمانية أصناف لا يخل بواحد منها إلا أن ‏{‏المؤلفة‏}‏ انقطعوا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويقول صاحب هذا القول‏:‏ إنه لا يجزئ المتصدق والقاسم من كل صنف أقل من ثلاثة، وأما الفقير والمسكين فقال الأصمعي وغيره‏:‏ الفقير أبلغ فاقه وقال غيرهم‏:‏ المسكين أبلغ فاقه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ولا طريق إلى هذا الاختلاف ولا إلى الترجيح إلا النظر النظر في شواهد القرآن والنظر في كلام العرب وأشعارها، فمن حجة الأولين قول الله عز وجل ‏{‏أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 79‏]‏ واعترض هذا الشاهد بوجوه منها، أن يكون سماهم «مساكين» بالإضافة إلى الغاصب وإن كانوا أغنياء على جهة الشفقة كما تقول في جماعة تظلم مساكين لا حيلة لهم وربما كانوا مياسير ومنها‏:‏ أنه قرئ «لمسّاكين» بشد السين بمعنى‏:‏ دباغين يعملون المسوك قاله النقاش وغيره ومنها‏:‏ أن تكون إضافتها إليهم ليست بإضافة ملك بل كانوا عاملين بها فهي كما تقول‏:‏ سرج الفرس، ومن حجة الآخرين قول الراعي‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد

وقد اعترض هذا الشاهد بأنه إنما سماه فقيراً بعد أن صار لا حلوبة له، وإنما ذكر الحلوبة بأنها كانت، وهذا اعتراض يرده معنى القصيدة ومقصد الشاعر بأنه إنما يصف سعاية أتت على مال الحي بأجمعه، فقال أما الفقير فاستؤصل ماله فكيف بالغني مع هذه الحال، وذهب من يقول إن المسكين أبلغ فاقه إلى أنه مشتق من السكون، وأن الفقير مشتق من فقار الظهر كأنه أصيب فقارة فيه لا محالة حركة، وذهب من يقول إن الفقير أبلغ فاقه‏:‏ إلى أنه مشتق من فقرت البئر إذا نزعت جميع ما فيها، وأن المسكين من السكن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومع هذا الاختلاف فإنهما صنفان يعمهما الإقلال والفاقه، فينبغي أن يبحث على الوجه الذي من أجله جعلهما الله اثنين، والمعنى فيهما واحد، وقد اضطرب الناس في هذا، فقال الضحاك بن مزاحم‏:‏ ‏{‏الفقراء‏}‏ هم من المهاجرين ‏{‏والمساكين‏}‏ من لم يهاجر، وقال النخعي نحوه، قال سفيان‏:‏ يعني لا يعطى فقراء الأعراب منها شيئاً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ «والمسكين السائل» يعطى في المدينة وغيرها، وهذا القول هو حكاية الحال وقت نزول الآية، وأما منذ زالت الهجرة فاستوى الناس، وتعطى الزكاة لكل متصف بفقر، وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏الفقراء‏}‏ من المسلمين، ‏{‏والمساكين‏}‏ من أهل الذمة، ولا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين، وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر «الفقير» من لا مال له ولا حرفة سائلاُ كان أو متعففاً «والمسكين الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلاً كان أو غير سائل، وقال قتادة بن دعامة‏:‏ الفقير الزمن المحتاج، والمسكين الصحيح المحتاج، وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وجابر بن زيد ومحمد بن مسلمة‏:‏» المساكين «الذين يسعون ويسألون، و» الفقراء «هم الذين يتصاونون، وهذا القول الأخير إذا لخص وحرر أحسن ما يقال في هذا، وتحريره‏:‏ أن الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل ولا بذل وجهه، وذلك إما لتعفف مفرط وإما لبلغة تكون له كالحلوبة وما أشبهها، والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع وسؤال، فهذه هي المسكنة، فعلى هذا كل مسكين فقير وليس كل فقير مسكيناً، ويقوي هذا أن الله تعالى قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة وقرنها بالذلة مع غناهم، وإذا تأملت ما قلناه بان أنهما صنفان موجودان في المسلمين، ويقوي هذا قوله تعالى‏:‏

‏{‏للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏ وقيل لأعرابي‏:‏ أفقير أنت فقال‏:‏ إني والله مسكين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وليس المسكين بهذا الطوّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان، ولكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه»، اقرأوا إن شئتم ‏{‏لا يسألون الناس إلحافاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏، فدل هذا الحديث على أن المسكين في اللغة هو الطواف، وجرى تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على المتصاون مجرى تقديم ‏{‏الفقراء‏}‏ في الآية لمعنى الاهتمام إذ هم بحيث إن لم يتهمم بهم هلكوا، والمسكين يلح ويذكر بنفسه، وأما العامل فهو الرجل الذي يستنيبه الإمام في السعي على الناس وجمع صدقاتهم، وكل من يصرف من عون لا يستغنى عنه فهو من ‏{‏العاملين‏}‏ لأنه يحشر الناس على السعي، وقال الضحاك‏:‏ للعاملين ثمن ما عملوا على قسمة القرآن، وقال الجمهور‏:‏ لهم قدر تعبهم ومؤنتهم قاله مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر، فإن تجاوز ذلك ثمن الصدقة فاختلف، فقيل يتم لهم ذلك من سائر الأنصباء وقيل، بل يتم لهم ذلك من خمس الغنيمة، واختلف إذا عمل في الصدقات هاشمي فقيل‏:‏ يعطى منها عمالته وقيل‏:‏ بل يعطاها الخمس، ولا يجوز للعامل قبول الهدية والمصانعة ممن يسعى عليه وذلك إن فعله رد في بيت المال كنا فعل النيبي صلى الله عليه وسلم بابن اللتبية حتى استعمله على الصدقة فقال، هذا لكم وهذا ما أهدي لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«هلا قعدت في بيت أبيك وأمك حتى تعلم ما يهدى إليك» وأخذ الجميع منه‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتأمل عمالة الساعي هل يأخذها قبل العمل أو بعده، وهل هي إجازة أو هي جعل وهل العمل معلوم أو هو يتتبع وإنما يعرف قدره بعد الفراغ، وأما ‏{‏المؤلفة قلوبهم‏}‏ فكانوا صنفين، مسلمين وكافرين مساترين، قال يحيى بن أبي كثير، كان منهم أبو سفيان بن حرب بن أمية والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعيينة والأقرع ومالك بن عوف والعباس بن مرداس والعلاء بن جارية الثقفي‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأكثر هؤلاء من الطلقاء الذين ظاهر أمرهم يوم الفتح الكفر، ثم بقوا مظهرين الإسلام حتى وثقه الاستئلاف في أكثرهم واستئلافهم إنما كان لتجلب إلى الإسلام منفعة أو تدفع عنه مضرة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحسن والشعبي وجماعة من أهل العلم‏:‏ انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره، وهذا مشهور مذهب مالك رحمه الله، قال عبد الوهاب‏:‏ إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقول عمر عندي إنما هو لمعنيين، فإنه قال لأبي سفيان حين أراد أخذ عطائه القديم‏:‏ إنما تأخذ كرجل من المسلمين فإن الله قد أغنى عنك وعن ضربائك، يريد في الاستئلاف، وأما أن ينكر عمر الاستئلاف جملة وفي ثغور الإسلام فبعيد، وقال كثير من أهل العلم‏:‏ ‏{‏المؤلفة قلوبهم‏}‏ موجودون إلى يوم القيامة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإذا تأملت الثغور وجد فيها الحاجة إلى الاستئلاف، وقال الزهري‏:‏ ‏{‏المؤلفة‏}‏ من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنياً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ يريد لتبسط نفسه ويحبب دين الإسلام إليه، وأما ‏{‏الرقاب‏}‏ فقال ابن عباس والحسن ومالك وغيره‏:‏ هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته، واختلف هل يعان بها المكاتب في أثناء نجومه بالمنع والإباحة، واختلف على القول بإباحة ذلك إن عجز فقيل يرد ذلك من عند السيد، وقيل يمضي لأنه كان يوم دفعه بوجه مترتب، وقال الشافعي‏:‏ معنى ‏{‏وفي الرقاب‏}‏ في المكاتبين ولا يبتدأ منها عتق عبد، وقاله الليث وإبراهيم النخعي وابن جبير، وذلك أن هذه الأصناف إنما تعطى لمنفعة المسلمين أو لحاجة في أنفسها، والعبد ليس له واحدة من هاتين العلتين، والمكاتب قد صار من ذوي الحاجة وقال الزهري‏:‏ سهم الرقاب نصفان، نصف للمكاتبين ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى، قال ابن حبيب‏:‏ ويفدى منه أسارى المسلمين ومنع ذلك غيره، وأما «الغارم فهو الرجل يركبه دين في غير معصية ولا سفه، قال العلماء‏:‏ فهذا يؤدى عنه وإن كانت له عروض تقيم رمقه وتكفي عياله، وكذلك الرجل يتحمل بحمالة في ديارات أو إصلاح بين القبائل ونحو هذا، وهو أحد الخمسة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،

«ولا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة العامل عليها أو غاز في سبيل الله أو رجل تحمل بحمالة أو من أهديت له أو من اشتراها بماله»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد سقط ‏{‏المؤلفة‏}‏ من هذا الحديث، ولا يؤدى من الصدقة دين ميت ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله، وإنما «الغارم» من عليه دين يسجن فيه، وقد قيل في مذهبنا وغيره‏:‏ يؤدى دين الميت من الصدقات قاله أبو ثور، وأما ‏{‏في سبيل الله‏}‏ فهو المجاهد يجوز أن يأخذ من الصدقة لينفقها في غزوه وإن كان غنياً قال ابن حبيب‏:‏ ولا يعطى منها الحاج إلا أن يكون فقيراً فيعطى لفقره، وقال ابن عباس وابن عمر وأحمد وإسحاق‏:‏ يعطى منها الحاج وإن كان غنياً، والحج سبيل الله، ولا يعطى منها في بناء مسجد ولا قنطرة ولا شراء مصحف ونحو هذا، وأما ‏{‏ابن السبيل‏}‏ فهو الرجل في السفر والغربة يعدم فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنياً في بلده، وسمي المسافر ابن السبيل لملازمته السبيل كما يقال للطائر‏:‏ ابن ماء لملازمته له ومنه عندي قولهم‏:‏ ابن جلا وقد قيل فيه غير هذا ومنه قولهم‏:‏ بنو الحرب وبنو المجد ولا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة، قال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب‏:‏ ولا من التطوع ولا يعطى مواليهم لأن مولى القوم منهم، قال ابن القاسم‏:‏ يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع ويعطى مواليهم من الصدقتين، ومن سأل من الصدقة وقال إنه فقير، فقالت فرقة يعطى دون أن يكلف بينة على فقره بخلاف حقوق الآدميين يدعي معها الفقر فإنه يكلف البينة لأنها حقوق الناس يؤخذ لها بالأحوط، وأيضاً فالناس إذا تعلقت بهم حقوق آدمي محمولون على الغني حتى يثبت العدم ويظهر ذلك من قوله تعالى

‏{‏وإن كان ذو عسرة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 280‏]‏ أي ان وقع فيعطي هذا أن الأصل الغنى فإن وقع ذو عسرة فنظرة، وقالت فرقة‏:‏ الرجل الصحيح الذي لا يعلم فقره لا يعطى إلا أن يعلم فقره، وأما إن ادعى أنه غارم أو مكاتب أو ابن سبيل أو في سبيل الله أو نحو ذلك مما لم يعلم منه فلا يعطى إلا ببينة قولاً واحداً، وقد قيل في الغارم‏:‏ تباع عروضه وجميع ما يملك ثم يعطى بالفقر، ويعطى الرجل قرابته الفقراء وهم أحق من غيرهم فإن كان قريبه غائباً في موضع تقصر إليه الصلاة فجاره الفقير أولى، وإن كان في غيبة لا تقصر إليه الصلاة فقيل هو أولى من الجار الفقير، وقيل الجار أولى ويعطى الرجل قرابته الذين لا تلزمه نفقتهم، وتعطى المرأة زوجها، وقال بعض الناس ما لم ينفق عليها، ويعطي الرجل زوجته إذا كانت من الغارمين، واختلف في ولاء الذي يعتق من الصدقة، فقال مالك‏:‏ ولاؤه لجماعة المسلمين وقال أبو عبيد‏:‏ ولاؤه للمعتق وقال عبيد الله بن الحسن‏:‏ يجعل ماله في بيت الصدقات، وقال الحسن وأحمد وإسحاق‏:‏ ويعتق من ماله رقاب، وإذا كان لرجل على معسر دين فقيل يتركه له ويقطع ذلك من صدقته وقيل لا يجوز ذلك جملة، وقيل إن كان ممن لو رفعه للحاكم أمكن أن يؤديه جاز ذلك وإلا لم يجز لأنه قد توي وأما السبيل‏:‏ فهو الذي قدمنا ذكره يعطى الرجل الغازي وإن كان غنياً، وقال أصحاب الرأي لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا أن يكون منقطعاً به، قال ابن المنذر‏؟‏ وهذا خلاف ظاهر القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أما القرآن فقوله ‏{‏وفي سبيل الله‏}‏، وأما الحديث فقوله «إلا لخمسة لعامل عليها أو غاز في سبيل الله»، وأما صورة التفريق فقال مالك وغيره‏:‏ على قدر الحاجة ونظر الإمام يضعها في أي صنف رأى وكذلك المتصدق، وقاله حذيفة بن اليمان وسعيد بن جبير وإبراهيم وأبو العالية، قال الطبري‏:‏ وقال بعض المتأخرين‏:‏ إذا قسم المتصدق قسم في ستة أصناف لأنه ليس ثم عامل ولأن المؤلفة قد انقطعوا فإن قسم الإمام ففي سبعة أصناف، قال الشافعي وعكرمة والزهري‏:‏ هي ثمانية أقسام لثمانية أصناف لا يخل بواحد منها واحتج الشافعي بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله‏:‏ «إن الله تعالى لم يرض في الصدقات بقسم نبي ولا غيره حتى قسمها بنفسه فجعلها ثمانية أقسام لثمانية أصناف فإن كنت واحداً منها أعطيتك»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والحديث في مصنف أبي داود، وقال أبو ثور‏:‏ إذا قسمها الإمام لم يخل بصنف منها وإن أعطى الرجل صدقته صنفاً دون صنف أجزأه ذلك وقال النخعي‏:‏ إذا كان المال كثيراً قسم على الأصناف كلها وإذا كان قليلاً أعطاه صنفاً واحداً‏.‏ وقالت فرقة من العلماء‏:‏ من له خمسون درهماً فلا يعطى من الزكاة، وقال الحسن وأبو عبيد، لا يعطى من له أوقية وهي أربعون درهماً، قال الحسن‏:‏ وهو غني وقال الشافعي‏:‏ قد يكون الرجل الذي لا قدر له غنياً بالدرهم مع سعيه وتحيله، وقد يكون الرجل له القدر والعيال ضعيف النفس والحيلة فلا تغنيه آلاف، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يأخذ الصدقة من لا مائتا درهم ومن كان له أقل فلا بأس أن يأخذ، قال سفيان الثوري‏:‏ لا يدفع إلى أحد من الزكاة أكثر من خمسين درهماً، إلا أن يكون غارماً وقال أصحاب الرأي، إن أعطي ألفاً وهو محتاج أجزأ ذلك، وقال أبو ثور‏:‏ يعطى من الصدقة حتى يغنى ويزول عنه اسم المسكنة ولا بأس أن يعطى الفقير الألف وأكثر من ذلك، وقال ابن المنذر‏:‏ أجمع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما أن يأخذ من الزكاة وللمعطي أن يعطيه، وقال مالك‏:‏ إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة على ما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجزه، وأما الرجل يعطي الآخر وهو يظنه فقيراً فإذا هو غني، فإنه إن كان بفور ذلك أخذها منه فإن فاتت نظر، فإن كان الآخذ غنياً وأخذها مع علمه بأنها لا تحل له ضمنها على كل وجه، وإن كان لم يغر بل اعتقد أنها تجوز له، أو لم يتحقق مقصد المعطي نظر، فقال الحسن وأبو عبيدة‏:‏ تجزيه، وقال الثوري وغيره‏:‏ لا تجزيه، وأهل بلد الصدقة أحق بها إلا أن تفضل فتنقل إلى غيرها بحسب نظر الإمام، قال ابن حبيب في الواضحة‏:‏ أما ‏{‏المؤلفة‏}‏ فانقطع سهمهم، وأما سبيل الله فلا بأس أن يعطى الإمام الغزاة إذا قل الفيء في بيت المال‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا الشرط فيه نظر، قال ابن حبيب‏:‏ وينبغي للإمام أن يأمر السعاة بتفريقها بالمواضع التي جبيت فيها ولا يحمل منه شيء إلى الإمام إلا أن يرى ذلك لحاجة أو فاقة نزلت بقوم، قال مالك‏:‏ ومن له مزرعة أو شيء في ثمنه إذا باعه ما يغنيه لم يجز له أخذ الصدقة، وهذه جملة من فقه الآية كافية على شرطنا في الإيجاز والله الموفق برحمته، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فريضة من الله‏}‏ أي موجبة محدودة وهو مأخوذ من الفرض في الشيء بمعنى الحز والقطع ثبوت ذلك ودوامه، شبه ما يفرض من الأحكام، ونصب ‏{‏فريضة‏}‏ على المصدر، ثم وصف نفسه تعالى بصفتين مناسبتين لحكم هذه الآية لأنه صدر عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة بينهم‏.‏